بقلم د. سعد الدين إبراهيم الاستخدام السياسي للقضاء

بقلم د. سعد الدين إبراهيم

من المبادرات الطيبة التي استحدثتها صحيفة «المصري اليوم» القاهرية، إتاحة الفرصة لقرائها علي موقعها الإلكتروني للتعبير عن آرائهم تجاه الأحداث العامة، أو ما تنشره الصحيفة من افتتاحيات ووجهات نظر أصحاب الأعمدة الدورية.
وقد استفدت شخصياً من هذه المبادرة، حيث أكتب فيها دورياً، كل يوم سبت منذ ميلاد «المصري اليوم». وحين صدر حكم من محكمة جنح الخليفة بإدانتي غيابياً، وبالحبس لمدة سنتين والغرامة بمبلغ عشرة آلاف جنيه، بتهمة «الإساءة لسمعة مصر والإضرار بمصالحها في الخارج»، وكان قد حرك تلك الدعوي محاميان مغموران من أعضاء الحزب الوطني.
كما قبلت نفس المحكمة دعوي أخري من شخص اسمه أحمد عبدالهادي، يدعي رئاسته لحزب أسمع عنه لأول مرة، هو «حزب شباب مصر»، لإسقاط الجنسية المصرية عن شخصي، لنفس السبب وهو «الإضرار بمصالح مصر في الخارج».
وهناك عشرون قضية مماثلة يحركها إما أعضاء في الحزب الوطني الحاكم، أو رؤساء أحزاب كرتونية، لم يسمع بها أحد، مثل حزب المحافظين، والحزب الجمهوري، وحزب العدالة. كما يدخل ضمن سباق تحريك هذه الدعاوي ضباط شرطة سابقون (مثل اللواء نبيل لوقا بباوي) ونقابية مخضرمة للاجتماعيين (ثريا لبنة)، وآخرون تجمعهم عضويتهم للحزب الوطني، من اللاهثين وراء الشهرة، أو السلطة، أو الثروة.
والجدير بالتنويه أن نفس التهم تظهر في كل الدعاوي، وبنفس العبارات والكلمات منذ عشر سنوات. ورغم تبرئة محكمة النقض لنا من كل التهم المماثلة عام ٢٠٠٣، إلا أن المايسترو أو الجهاز الذي يوحي ويشجع أو يحرض علي رفع هذه القضايا ضد سعد الدين إبراهيم، هو:
* أولاً، فقير الخيال، ومحدود المعرفة، حيث يكرر نفس الادعاءات، دون كلل، أو ملل. فهو لم يرتفع لمستوي أجهزة دول أخري، سنتحدث عنها في مقالات قادمة.
* وهو ثانياً، يجد متطوعين أو متزلقين جدداً، بعد أن ملّ الجمهور الاسم المتكرر لكل من المحامي نبيه الوحش، واسم مستشار سابق ومحام لاحق، من أبناء محافظتي (الدقهلية) اسمه مرتضي منصور. ولعل عثور نفس الجهاز الأمني علي متطوعين جدد جعله يهمل تجديد اتهاماته!
* أو ربما يدرك نفس الجهاز اليائس أو المايسترو غير الماهر، أن كل هذه القضايا الملفقة، يتم رفضها في النهاية من المحكمة العليا، كما رفضت من قبل، ولكنه ينفذ أوامر وتعليمات سلطة أعلي، أو هو ينتقم لنفسه للفشل أو الهزيمة في محاولاته السابقة.
* ورابعاً، ربما يعتقد صاحب القرار الأعلي، أنه يكسب في كل الأحوال. فرغم براءتي السابقة (عام ٢٠٠٣)، إلا أنه نجح في سرقة ثلاث سنوات من عمري، ودمر صحتي، وشوه سمعتي، واستنزف موارد أسرتي. وبالتالي، فإن هذا الآمر الناهي في مصر المحروسة يهدف إلي نفس الشيء أو أكثر قليلاً هذه المرة أيضاً.
خاصة وأنا علي مشارف السبعين من عمري، وهو وأجهزته لن يعدموا أن يجدوا دائرة جنح، أو حتي استئناف، يرأسها أحد خريجي هذه الأجهزة الذين التحقوا بسلك القضاء، فمنذ بدأت كلية الشرطة تدرس لطلابها مناهج كلية الحقوق، أصبح بعض الضباط يلتحقون بسلك القضاء. وفي المرتين اللتين أدانتني فيهما محاكم أمن الدولة، كان الذي يرأس الدائرة مستشاراً من هذا النوع.
* خامساً، أن ما يفعله النظام مع د.أيمن نور، رئيس حزب «الغد» هو نسخة نمطية من هذه النزعة الانتقامية من الخصوم، بلا رحمة أو شفقة، حتي حينما يكون هناك هامش شرعي لذلك، مثل قضاء نصف مدة العقوبة أو حالة المرض. وهو ما ينطبق علي أيمن نور. وهذا بالضبط ما فعله معي النظام من قبل، ويحاول أن يفعله من بعد.
إن هذه الانتقائية في استخدام القانون والدوائر القضائية، والاختراق الخبيث للسلطة الوحيدة التي احتفظت بالكثير من استقلاليتها إلي تاريخه ينذران بأوخم العواقب. فبعد أن امتطت مؤسسة الرئاسة حصان السلطة التنفيذية، وجرجرت بحبالها وأصواتها السلطة التشريعية، فها هي تحاول نفس الشيء مع السلطة القضائية.
ومن ذلك أنها، في ظل حالة الطوارئ، استحدثت أنظمة قضائية تلتف بها حول القضاء الطبيعي، مثل المحاكم العسكرية، ومحاكم الطوارئ وأمن الدولة. ومن ذلك التفرقة في معاملة القضاة، باختيار «المتعاونين» منهم للانتداب لوزارات ومؤسسات أخري بأضعاف أضعاف رواتب ومزايا زملائهم «غير المتعاونين»، هذا فضلاً عن التلويح بمناصب المحافظين والوزراء للأكثر «انقياداً» من هؤلاء «المتعاونين».
وهكذا أصبح قطاع من السلطة القضائية لعبة في يديه، يستخدمه بمهارة حيناً، وبحماقة أحياناً. لتسوية حساباته مع المعارضين والمنشقين، والخطورة هي في تضخم هذا القطاع، واتساع تلك الممارسات السرطانية.
ولكن الجديد، الذي أظهرته رسائل القراء علي الخدمة الإلكترونية لـ«المصري اليوم»، وغيرها من الصحف المستقلة، هو الإدراك المتصاعد فلكياً في دوائر الرأي العام المصري لهذه الأخطار السرطانية علي سلامة السلطة الوحيدة الباقية لهم بقدر من الاستقلال كدرع تحميهم، ولو جزئياً، مما وصفته محكمة النقض نفسها في أحد أحكامها في (١٨/٣/٢٠٠٣) «بتغول مؤسسة الرئاسة، التي ابتلعت السلطتين التنفيذية والتشريعية».
وهذا الجديد في المشهد المصري عام ٢٠٠٨، يمثل قفزة نوعية شاسعة مما كان عليه المشهد عام ٢٠٠٠، حينما قُبض علي لأول مرة، ومعي ٢٧ آخرون من العاملين وقتها في مركز ابن خلدون. فقبل ثماني سنوات كان هناك صوت واحد شُجاع يدافع، مقابل كل تسعة ينهشون. حتي المنظمات الحقوقية المصرية تجمدت أو لاذت بالصمت.
أما الآن فإن ثمانية من كل عشرة يعلقون في تلك المواقع الإلكترونية، يعبرون ليس فقط عن تضامنهم مع سعد الدين إبراهيم، واستهجانهم لمن حركوا الدعاوي القضائية، ولكن أيضاً عن سخطهم لاستخدام القضاء في ملاحقة أصحاب الرأي من المنتقدين والمعارضين من ناحية، واستخدامه لتمكين الأتباع والعملاء من الإفلات من العقاب في جرائم كبري راح ضحيتها آلاف المصريين، وآخرهم ممدوح إسماعيل، صاحب العبارة «السلام»، والمحسوب علي أحد كبار المسؤولين في رئاسة الجمهورية من ناحية أخري.
هذا فضلاً عن تآكل البقية الباقية من شرعية النظام في إشباع الحد الأدني من احتياجات أبناء الشعب الأساسية، وهي الخبز والخدمات العامة من مياه شرب نظيفة وكهرباء وأمن وعدالة.
وربما أصبحت مصر في عهد مبارك حالة نمطية لما يطلق عليه علماء السياسة والاجتماع «الدولة الراسبة» (Failed State)، وهي دولة يعجز نظامها الحاكم عن تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع. وهي دولة تتعاظم فيها سطوة وحجم الأجهزة الأمنية قياساً بكل المؤسسات الأخري في المجتمع. وهذا ما يفسر وصول حجم هذه الأجهزة في مصر إلي مليون ونصف، عشرة أمثال الجهاز القضائي.
هذا فضلاً عن ميزانيات الجهاز وفخامة مقاره ومميزات كبار العاملين فيه. ونظرة عابرة إلي فخامة مبني أمن القاهرة مقارنة بتعاسة مبني محكمة جنوب القاهرة، وهما متجاوران، في ميدان باب الخلق، تلخص مأساة مصر في اللحظة الراهنة. فلم يعد «العدل أساس الحكم... ولكنه الأمن عماد النظام... والشعب في خدمة الشرطة».
فلا حول ولا قوة إلا بالله.